يحكي الدكتور عبد الله أبو جربوع وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المساعد في قطاع غزة قائلاً :
كانت الأيام لسائق سيارة الأجرة [ سعيد ] رتيبة اعتيادية؛ فلم يكن له من
اسمه نصيب أبداً، كان مجرد سائق لاهي في هذه الحياة بلا صلاة أو عبادة؛
فقد كان ينتسب للمذهب الشيوعي، إلى إن جاءت ساعة الهداية, والهداية من
الله سبحانه وتعالى لقوله: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (سورة البقرة:272) ؛
فشاء الله أن ألتقي به في أحد أيام عملي, حيث كانت البداية في عام 1984م
بالتحديد، لم أزل حينها في بداية دعوتي, كانت الأحوال حينئذ في قطاع غزة
صعبة جداً حيث الاحتلال, والقهر, والظلم، وكانت ما تكاد تعلن الساعة
التاسعة مساءً حتى تخلو الشوارع من المارة, وكنت حينها أعمل في إحدى
المناطق البعيدة عن منطقة سكني, ومضى الوقت وأنا منهمك في عملي, ولم أعلم
أن الوقت قد تأخر, خرجت من مكان عملي لكي أستقل سيارة لأذهب بها إلى بيتي؛
ففوجئت أن الشوارع خلت من المارة, في حين إن نظرنا إلى الساعة نجدها لم
تتعدى منتصف الليل, ولكن ظروف وأحوال القطاع تخضع لحظر التجوال, وأخذت
ألتفت يميناً وشمالاً لكي أستقل سيارة لأصل بها إلى منزلي, حينها لم أجد
إلا سيارة واحدة تقف بعيداً, ذهبت إليها، وقلت للسائق: ما اسمك؟ قال: سعيد
سألته: هل يمكنك إيصالي إلى بيتي يا سعيد ؟ فرفض؛ لأن طريقه مختلف عن
طريقي، ثم نظر إلي وقبِل أن يوصلني بشرط عدم إيصالي إلى البيت؛ بل لمكان
قريب منه؛ فوافقت.
دارت عجلت السيارة وبدأت بقراءة دعاء السفر: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما
كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا
البر و التقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا
بعده ، اللهم أنت الصاحب في السفر و الخليفة في الأهل، بسم الله , سبحان
الله , الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون
, الحمد لله , الحمد لله الحمد لله , الله أكبر, الله أكبر , الله أكبر
سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت "، ثم
شرعت بقراءة ما تيسر لي من القرآن؛ فأجرى الله على لساني من قوله تعالى: {
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ
وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا
سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ *
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}. (الزخرف: 12-14)
كان طويلا ومنذ بدأت بالقراءة والسائق سعيد ينظر إلي نظرات غريبة، وفي
منتصف الطريق أوقف السيارة وقال: انزل! فتطلعت إليه بدهشة، وعدم فهم!
فأكمل قائلاً : انزل واركب بجانبي. فامتثلت لأمره، ثم قال: أكمل ما بدأت.
عاودت القراءة، وطلب مني ألا أقطع القراءة أبداً، وقال: أشر بيدك إلى
الطريق إلى بيتك فقط، فعلت ما أراد منى وأخذت أقرأ و أشير له أن يمر من هذا
وذاك الشارع إلى أن وصلنا إلى البيت.
وحين ترجلت من السيارة باح عن إعجابه، وشكرني ورفض أن يأخذ مني أجرة، وقال لي: لعلك تساعدني أنا لم أسمع من قبل قرآناً قط.
فنظرت إليه مرحّبا وقلت: سوف أساعدك، لكن الوقت متأخر الآن، أعطني عنوان
بيتك وسنتواصل بإذن الله؛ فسجل سعيد عنوان بيته وودعني ذاهباً في طريقه.
وفي صبيحة اليوم التانى ذهبت للعنوان الذي أعطاني إياه سعيد، واصطحبت معي
صديقي في الدعوة إلى الله, وصلنا إلى المكان وأخذنا نقرع الباب، فتحت لنا
الباب سيدة كبيرة في السن وبدت علامات الاستغراب على وجهها واعتلت محياها
قسمات العبوس حين رأتنا، وقالت: ماذا تريدون؟ فقلنا لها: هذا بيت السائق
سعيد؟ قالت : نعم هو، ولكن من أنتم؟ وماذا تريدون من ابني؟ بدا عليها
الاستغراب كيف يكون هؤلاء أصدقاء لابنها وهي تعرفه جيداً حين رأت شباب
ملتحين ويلبسون الجلابيب؛ فقالت : غير موجود في البيت الآن، وسيأتي متأخر
لعلكم تأتون في وقت لاحق لا أعلم متى يعود.
ولعلها ذهبت وهي تحدث نفسها : بالتأكيد هؤلاء مخطئون بالعنوان.
عدنا أدراجنا إلى أماكن عملنا، وما أتى اليوم الثاني إلا وكنا على أعتاب
باب بيت السائق سعيد وقرعنا الجرس، ولكن هذه المرة فتح لنا الباب سعيد
بنفسه؛ فعرفني وبدأ بالسلام الحار علي وعلى صديقي، ودخلنا البيت وقدم لنا
واجب الضيافة, وبدأنا بالحديث عن الصلاة والدين الإسلامي وسماحته.فقال
لنا: [ أنا لم أصلي أبداً، ولا أعرف في الدين شيء، ولكن حين استمعت إلى
القرآن وأنت تقرأه في السيارة اعتراني شعور غريب جعلني أفكر بحياتي جيداً
].
فأخذنا بيده وعلمناه مبادئ الإسلام، وكيفية الصلاة وما هو حلال وما هو
حرام، فتبدل حاله بعدها، وأصبح من رواد المساجد، وعزم أمره على أن يحج إلى
بيت الله، وفعل؛ ففرحنا كثيراً بهذا المجهود؛ بل إنه أصبح يعلم أبناءه
ويحثهم على عدم ترك الصلاة والتمسك بها.
فلنتأمل كيف تبدلت حياته من حالٍ إلى حال، بسبب دعوة كانت في بدايتها
عفوية، وكيف هو تأثير آيات الله على كل قلبٍ كان مؤمناً أو لم يكن.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يثبته ويثبتنا على الصراط المستقيم، ويجعلنا من أهل الخير العاملين به، الداعين إليه