الأهل والشريك .. بين إفراطٍ وتفريط
سحر المصري
شابٌ يشكو: اخترتها
بعد معرفة عميقة بها والتأكد أنها هي مَن باستطاعتها إسعادي للتوافق
بيننا ولتوفّر كل ما أريده في شريكتي من خُلُق ودين وعقل وجمال فهي امرأتي
الحقيقية ولكن أهلي رفضوها لأسباب دنيوية مُعتَبَرة عندهم ولكني لا أبالي
بها فرضختُ إرضاءً لهم ولكني أكتوي بنار فراقها وأموت يومياً بسبب هذا
الألم.
وفتاة تقول: وافقني
أهلي على مضض ورضخوا لرغبتي بالزواج من شاب غير كفء لي ولكني اخترته على
دينه فقط وبعد الزواج علمت أن الدين هو الإطار الذي يجب أن نرتكز عليه في
اختيارنا قبل الخوض في المعايير الأُخرى الهامة كالتكافؤ وانتهى زواجي
بالطلاق فيا ليتهم لم يقبلوا بهذا الزواج من الأصل.
حكايا
كثيرة نتناقلها في مجتمعاتنا وقد تختلف بين بيئة وأُخرى ولكن يبقى السؤال
الذي يتردّد دائماً: إلى أيّ مدى يحقّ للأهل التدخّل في اختيار الشريك
لأبنائهم وبناتهم؟!
لا
شك أن قرار الزواج هو من أخطر القرارات التي يمكن للمرء أن يتّخذها في
حياته إذ على أساس هذا الاختيار تُبنى حياة كاملة مستقبلية وإن أي سوء في
الاختيار قد يدفع المرء نتيجته حياته كلها إما بالبقاء في بيت الزوجية مع
طلاق عاطفي صامت أو عدم انسجام وإما بالطلاق الفعلي الذي يشتّت شمل
العائلة ويورِث الألم والعُقَد ويحطِّم النفسية ويهدم الأمل.
ولذلك
نرى الأهل ينتفضون حين يتقدّم شاب لابنتهم فيسألون ويستشيرون وكذلك الأمر
حين يصبح ابنهم جاهزاً للزواج فيبدأون الزيارات لانتقاء فتاة مناسبة له.
فالزواج ليس رباطاً بين رجل وفتاة فقط وإنما هو إرساء شبكة اجتماعية جديدة
بين العائلتين فإن لم يكن هناك توافق بين العائلتين فهذا من دون شك
سيؤثِّر سلباً على الحياة الزوجية للعروسين ولربما سبَّب مشاكل جمّة
مستقبلاً.
ولكن..
هل دائماً يكون اختيار الأهل صائباً؟ فقد يختار الأهل الشاب لماله ضاربين
بعرض الحائط المعايير الأهم التي أرشد إليها الإسلام حين جعل الخُلق
والدّين هما الأساس لأي اختيار. وقد يختارون لابنهم الفتاة الجميلة
متناسين حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين دعا إلى الظفر بذات الدين
وجعله المقياس الأساس مع عدم الاستغناء عن المال والنسب والجمال بطبيعة
الحال ولكن أن يكون الجمال هو الأساس وبعد ذلك “يهديها” فهذا منزلق خطير إذ
قد “تفتنه” وتُنسيه دينه والشيطان لها خير معين!.
وما
هو مستغرب في هذا العصر حقاً أن هناك من الأهل من يُجبِر أبناءه وبناته
على الارتباط بمَن لا يريدون أو لنقُل بطريقة أصَح أن لا يشرِكوهم في
عملية الاختيار ويرضخ الشاب أو الفتاة إمّا طاعة لإرضاء الأهل وإمّا ضعفاً
لعدم إمكانية التغيير! ثم ينشأ عن هذا الزواج إن لم يحصل التوافق - عائلة
تفتقر إلى الإلفة والمودة ويتعايش الزوجان مع بعضهما البعض ويقضيان العمر
ربما وهما قريبان جسدياً بعيدان روحياً!.
من
المؤكَّد أنّ تدخّل الأهل في الإختيار هو أمر طبيعي بل من الواجب أن يأخذ
الأبناء برأي الأهل لأنهم أوعى وأنضج وللأهل حق على الأبناء في الاحترام
والوفاء والبِر. فمن غير المقبول أن يتصرّف الشاب أو الفتاة في كل أمورهم
من دون أي اعتبار لأهلهم الذين ربياهما وعلّماهما وتحمّلا مشقة إعالتهما
في كل حياتهما بحجة أنهما أحرار وأنهما مسؤولان عن تصرفاتهما واختياراتهما
خاصة في قضية الزواج أو أن هذا يُنقِص من قدرهما وحجم الحرية المتاحة
لهما.
وقد
يرفض الشاب أو الفتاة - تحت مسمّى الطاعة - الارتباط بشخص معيّن نتيجة عدم
رغبة الأهل فيه بالرغم من الحوار ومحاولة الإقناع ولكن في نفس الوقت لا
يجوز للأهل إجبار أبناءهم على زواج من لا يرغبون به. فهذا المشروع هو
للشخص الذي يريد الارتباط وهو أدرى باحتياجاته وامكانياته وظروفه
ومتطلباته وأهدافه ومدى ملاءمة الطرف الآخر له! والزواج مودة وسَكَن وراحة
وطمأنينة وهذه كلها لا تتحقّق إلا إن كانت البداية صحيحة فمتانة البناء
يكون بالأساس الصلب!
وقد
حدث أن فسخ الحبيب -عليه الصلاة والسلام- زواج الخنساء بنت خِذام
الأنصاريّة حيث شكت إلى النبي وقالت: إنّ أبي زوَّجني من ابن أخيه وأنا
كارهة. فقال: ((أجيزي ما صنع أبوك)). فقالت: ما لي رَغبة فيما صنع أبي،
فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اذْهبي فلا نكاحَ له، انكحي مَن شئتِ)).
فقالت: أجزتُ ما صَنَع أبي، ولكني أردتُ أن يعلَمَ الناس أن ليس للآباء من
أمور بناتِهِم شيءٌ.
وإن
كان هذا ليس بمستهجن لأنه حاصل بالفعل مع الفتيات فإن الأمر يكاد يشكّل
معضلة بالنسبة للشاب الذي يحلم بأن يقضي حياته مع مَن توافقه فكراً وعقلاً
وقلباً، فيجد أمّه قد حضّرت الموضوع وأنهته بمعرفتها، وما عليه إلا أن
يذهب يوم العقد ليوقِّع الصفقة جاهزة! راجياً بذلك برّها والفوز برضا الله
- تعالى -وهذا لا شك أمر مطلوب ورائع أن يُرضي أهله ولكن بحدود، وليس على
حساب نفسه وحياته المستقبلية.. فيجب أن يحاورهم بما يريد ويناقشهم بأن
الشريعة الإسلامية أكرمت الإنسان باختيار أموره الخاصة وأبرزها الزواج وأن
من حقه أن يشارك في عمليه الاختيار ليؤدم بينهما ولتكتمل السعادة
الزوجية!.
فما
الذي يمنع هذا الشاب أن يرفض هذه العلاقة إن شعر بعدم الارتياح إلى هذه
الفتاة؟ وقد قال عمر بن الخطاب ورضي الله عنه: "يعجبني الرجل إذا سيم خطة
خسف أن يقول بملء فيه: لا".
وقد
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الأمر فكان جوابه - رحمه الله - جل
وعلا -: "ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد وأنه إذا امتنع
لا يكون عاقاً، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على
أكل ما تشتهيه نفسه، كان النكاح كذلك وأولى، فإن أكل المكروه مرة، وعشرة
المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك".
وفي
سؤال وُجِّه للشيخ القرضاوي -حفظه الله تعالى- عن تعنّت الأهل ورفضهم
زواج أبنائهم ممّن يرغبون من دون أسباب دينية مُعتَبَرة قال: "إن استبداد
الأهل بالرأي، والصمم عن الاستماع لنبضات قلب الفتى والفتاة، وتغليب
اعتبارات الرياء الاجتماعي، والمفاخرات الجاهلية بالأنساب والأحساب، ليس
وراءه في النهاية إلا تعاسة الأبناء والبنات، أو دفعهم ودفعهن إلى التمرد
على التقاليد التي تجاوز أكثرها الزمن، وغدت من مخلّفات عصور الانحطاط
وأصبح "نسب" عصرنا هو العلم والعمل والنجاح".
فمتى
يدرك الأهل أن دورهم في عملية اختيار الشريك لأبنائهم لا يتجاوز النصح
والإرشاد فلا إلزام ولا إجبار ومن ناحية أُخرى لا رفض ولا استبداد.. ولا
يكون رفض حازم إلا في حالتين:
- أن يكون الشريك الذي اختاروه فيه فسق أو ما يهين ويعيب.
- أن يفتقد أبناؤهم للحكمة والقدرة على الاختيار والنضج والتمييز والعقلانية.
الأهل
يريدون سعادة أبنائهم وخبرتهم في الحياة أعمق وتحكيمهم للعقل أكبر.. ولكن
ليست دائماً مفردات ومعايير السعادة هي نفسها لدى الجميع.. وما يُسعِد
شخص قد لا يرغب به غيره.. ولا يعتقدنّ أحدٌ أن مفاتيح الحياة السعيدة بين
يديه وأنه أقدر على استنباط أحكامها.. وما يناسب جيل.. قد لا يناسب آخَر!
أويرغب أحد أن يرى فلذة كبده تعلو وجهه التعاسة وينبت في قلبه الألم؟..
وقد يعيش طلاقاً صامتاً.. أو بائناً؟