بسم الله الرحمن الرحيم
ما الذي بالله غـرّك ؟
لا بُـد أنك نـمـت !
فإن لم تكن البارحة فليلة قبلها
هل غلبك النـّوم يوما من الأيام أو ليلة من الليالي ؟
هل رأيت كيف سلطانه عليك ؟
فالنوم أقوى منك ، ومع ذلك هناك ما هو أقوى منه !
سُئل عليٌّ رضي الله عنه : أي الخلائق أشد ؟
فقال : أشد خلق ربك عشرة :
الجبال
الرواسي ، والحديد تنحت به الجبال ، والنار تأكل الحديد ، والماء يطفئ
النار ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يعني يحمل الماء ، والريح تقل
السحاب ، والإنسان يغلب الريح يعصمها بيده ويذهب لحاجته ، والسُّكر يغلب
الإنسان ، والنوم يغلب السكر ، والهم يغلب النوم فأشد خلق ربكم الهمّ .
فـ ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ؟
أغـرّك حلمـه عليك ؟
أم غـرّك سمـعـك ؟
فهناك من هو أقوى منك سمعاً !
أما علمت أن البهائم التي سُخّرت لك تسمع ما لا تسمعه أنت ؛ من عذاب القبر ؟
أم غـرّك بصرك ؟
فهناك من الطيور من هو أحـدّ بصراً منك .
أما علمت أن الديك يرى ما لا ترى من الملائكة ؟
وأن الحمار والكلب يرى ما لا ترى من الشياطين ؟
قال
عليه الصلاة والسلام : إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله ،
فإنها رأت ملكا ، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنه
رأى شيطانا . رواه البخاري ومسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم : إذا سمعتم
نباح الكلاب ونهاق الحمير من الليل فتعوذوا بالله ، فأنها ترى ما لا ترون .
رواه الإمام أحمد وأبو داود .
فما الذي غـرّك ؟
أغـرّتك قوتك ؟
فهناك من الدوابّ ما هو أقوى منك وأسرع !
أغـرّك أنك ذو حسب أو مال ؟
فأنت هكذا وُلدت من غير منك ولا قوة
والمال مال الله ، فليس لك حذق في جمعه ، ولا قوة في كسبه .
فمن ظن أن الرزق يأتي بقوة *** ما أكل العصفور شيئا مع النسر !
أم غـرّك أن الله أملى لك وأمهل ، فظننت أن هذا لصلاح فيك ؟
قال
ابن القيم في قول الله تعالى : ( فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ
رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا
إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَهَانَنِ )
قال رحمه الله : فهو قد اعترف بأن ربه هو الذي آتاه ذلك
ولكن ظن أنه لكرامته عليه فالآية على التقدير الأول تتضمن ذم من أضاف النعم
إلى نفسه وعِلْمِه وقوَّتِه ، ولم يضفها إلى فضل الله وإحسانه ، وذلك محض
الكفر بـها ، فإن رأس الشكر الاعتراف بالنعمة وأنـها من المنعم وحدَه ،
فإذا أضيفت إلى غيره كان جَحْداً لها ، فإذا قال : أوتيته على ما عندي من
العلم والخبرة التي حصلت بـها ذلك ، فقد أضافها إلى نفسه وأعجب بـها ، كما
أضافها إلى قدرته الذين قالوا : من أشد منا قوة ؟! فهؤلاء اغتروا بقوّتـهم ،
وهذا اغتر بعلمه فما أغنى عن هؤلاء قوتـهم ، ولا عن هذا علمه .
وعلى
التقدير الثاني تتضمن ذم من اعتقد أن أنعام الله عليه لكونه أهلا ومستحقا
لها ، فقد جعل سبب النعمة ما قام به من الصفات التي يستحق بـها على الله أن
ينعم عليه .
وأن تلك النعمة جزاء له على إحسانه وخيره ، فقد جعل سببها
ما اتصف به هو لا ما قام بربه من الجود والإحسان والفضل والمنة ، ولم يعلم
أن ذلك ابتلاء واختبار له أيشكر أم يكفر ، ليس ذلك جزاء على ما هو منه ،
ولو كان ذلك جزاء على عمله أو خير قام به فالله سبحانه هو المنعم عليه بذلك
السبب فهو المنعم بالمسبب والجزاء والكلُّ محضُ منَّتِه وفضلِه وجودِه ،
وليس للعبد من نفسه مثقال ذرة من الخير . وعلى التقديرين فهو لم يُضِفْ
النعمةَ إلى الرب من كل وجه ، وإن أضافها إليه من وجه دون وجه ، وهو سبحانه
وحده هو المنعم من جميع الوجوه على الحقيقة بالنعم وأسبابِـها .
فأسبابُـها من نِعمِه على العبد ، وإن حصلت بكسبه فكسبُه من نعمِه . فكل
نعمة فمن الله وحده حتى الشكر ، فإنه نعمة ، وهي منه سبحانه ، فلا يطيق أحد
أن يشكره إلا بنعمته ، وشكرُه نعمةٌ منه عليه ، كما قال داود صلى الله
عليه وسلم : يا رب كيف أشكرك ، وشكري لك نعمه من نعمك عليّ تستوجب شكراً
آخر ؟. فقال : الآن شكرتني يا داود . ذكره الإمام أحمد . والمقصود أن حال
الشاكر ضد حال القائل : (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ) .انتهى
كلامه رحمه الله .
يا أيها الإنسان ما الذي بالله غـرّك ؟
أغـرّك أنك فعلتَ وفعلت ، وأنفقت وتصدّقت ؟
قال جل جلاله : ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ )
سمع ابن سيرين رجلا يقول لرجل : فعلت إليك ، وفعلت ، فقال له : اسكت ! فلا خير في المعروف إذا أُحصيَ .
أغـرّك أن الله يراك على المعصية ، بل وتُقيم عليها الدهور ، وهو يحلم عليك ، ويمهلك ، بل ويَقْبلك إن رجعت ؟
أغـرّك أن ربك واسع المغفـرة فطمعت في رحمته وبحبوحة جنته دون عمل ؟
قال
معاذ بن جبل رضي الله عنه : سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب
فيتهافت ، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة ، يلبسون جلود الضأن على قلوب
الذئاب ، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف ، إن قصّروا قالوا : سنبلغ ، وإن
أساؤوا قالوا : سيُغفر لنا ! إنا لا نشرك بالله شيئا . رواه الدارمي .
ما الذي بالله غـرّك وهل نسيت أصلك ؟
بزق
النبي صلى الله عليه وسلم في كفه ثم وضع أصبعه السبابة . وقال : قال الله :
ابن آدم أنـّـى تعجزني ، وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت
بين بردين وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي ، قلت :
أتصدق ، وأنـّـى أوانُ الصدقـة . رواه الإمام أحمد ، وهو حديث صحيح .
ويوم
القيامة يوبّـخ أقوام على طول آمالهم فيُقال لهم : ( وَلَكِنَّكُمْ
فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ
الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ )
وغرّتكم الأمانيّ :
مَنّـتْـهم أنفسُهم اللحوق بسيد الشهداء وهم قعود بلا عمل !
قال القرطبي في تفسيرها :
وغرتكم الأماني : أي الأباطيل ، وقيل طول الأمل .
وقال ابن كثير :
قال بعض السلف : أي فتنتم أنفسكم باللذّات والمعاصي والشهوات .
وتربصتم : أي أخّـرتم التوبة من وقت إلى وقت .
وقال قتادة : وتربصتم بالحق وأهله ، وارتبتم أي بالبعث بعد الموت .
وغرتكم الأماني : أي قلتم سيُغفر لنا .
وقيل : غرتكم الدنيا حتى جاء أمر الله ، أي مازلتم في هذا حتى جاءكم الموت .
وغركم بالله الغرور : أي الشيطان .
وقال قتادة : كانوا على خدعة من الشيطان ، والله مازالوا عليها حتى قذفهم الله في النار . انتهى .
فاحذري يا نفس من خدعة الشيطان ، ومن التسويف .
احذري مِن " سوف " و " لعل " فهي لا تُثمر سوى الحسرات .
قال ابن الجوزي رحمه الله :
أحكم القوم العِلم فَحَكَم عليهم بالعمل ، فقاطعوا التّسويف الذي يقطع أعمار الأغمار . اهـ
كان يحيى بن معاذ يقول : إن قال لي يوم القيامة : عبدي ما غرك بي ؟ قلت : إلهي بـرّك بي .
فيا رب أنت تعلم ما غرّنا غير سعة حلمك وجودك وكرمك .
فيا
من ستر القبيح ، ويا من أظهر الجميل ، استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، ولا
تجعلنا من المغرورين الذين غرّتهم الحياة الدنيا وغرّهم بالله الغرور
كتبه
عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم
عضو مركز الدعوة والارشاد بالرياض