كتبه/ علي حاتم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالنفاق من أخطر صور الإفساد في الأرض، وأشدها خطرًا
على المجتمعات الإسلامية، ذلك أن المنافق يُظهر الإيمان باللسان، ويكتم
الكفر بالقلب.
والنفاق في اللغة: هو من جنس الخداع والمكر، وإظهار الخير وإبطان خلافه (جامع العلوم والحكم).
أقسام النفاق:
وينقسم النفاق من حيث الشرع إلى قسمين:
الأول: النفاق الأكبر: وهو أن يُظهر الإنسان الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويبطن ما ينافق ذلك كله أو بعضه.
وهذا النوع من النفاق هو الذي كان على عهد رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-، وزعيمه عبد الله بن أبي ابن سلول -عليه لعائن الله
المتتابعة إلى يوم الدين-، وقد نزل القرآن بتكفيره وجماعته، وأخبر أنهم في
الدرك الأسفل من النار وفضحهم، وجلَّى وبيَّن صفاتهم أعظم بيان؛ ليكون
المجتمع المسلم على حذر منهم.
الثاني: النفاق الأصغر أو النفاق العملي:
وهو أن يُظهر الإنسان علانية من خلال عمله، ويبطن ما يخالف ذلك؛ ولذلك
يُدخِل العلماء الرياء ضمن النفاق العملي، وهذا النوع من أكبر الكبائر، قال
-صلى الله عليه وسلم-: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (متفق عليه).
والنفاق من أمراض القلوب؛ حيث إن القلوب يعتريها
نوعان من أنواع الأمراض: أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات، والنوع الأول هو
الأخطر ومنه النفاق؛ ولذلك فهو يزيد وينقص، مثل الإيمان، قال -عز وجل-: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) (البقرة:10).
وكلما اشتد النفاق وتمكن من قلب العبد كلما اشتد انعكاس ذلك على سلوكياته التي تفضح ما في باطنه من مرض.
العلاقة بين النفاق والإفساد في الأرض:
وهذا هو المقصود إبرازه وإظهاره في حديثنا، وليس المقصود هو حصر صفات المنافقين.
والفساد إما أن يكون حسيًا: كالقتل والتخريب
والتدمير، وإما أن يكون معنويًا وهو أشد، ومن أعظمه: النفاق الذي يموت
صاحبه ويظل أثر نفاقه ومعتقداته الباطلة أعوامًا طويلة، وربما لا يزول.
فكم من مفسد مخرِّب مدمر سفاك للدماء، قد ذهب وذهبت
آثاره؛ فهذا أبو جهل، وأبو لهب، وأمية بن خلف، وفرعون، وأمثالهم كثيرون..
ذهبوا وذهبت آثارهم.
وأما رموز النفاق والضلال والشبهات فهم يذهبون ويبقى
نفاقهم وضلالهم ومعتقداتهم إلى فترات طويلة، وربما لا تزول بالكلية؛ ولذلك
تحدث الله عن الكافرين في آيتين، وعن المنافقين في ثلاث عشرة آية، وذلك
في سورة البقرة؛ ليحذر المجتمع منهم.
المنافقون هم المفسدون في الأرض:
قال -عز وجل-: (وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ .
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ) (البقرة:11-12).
فقد بيَّن الله -عز وجل- أنهم ذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ادعوا أنهم مصلحون؛ فحصر الله الفساد فيهم بأسلوب حصر وتأكيد (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ)،
فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض وهو العمل بالكفر والمعاصي، ومنه:
إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم، وموالاتهم للكافرين، وإظهار أنه ليس بفساد،
وهذا قلب للحقائق، وجمع بين فعل الباطل واعتقاده حقًا.
المنافقون أشد فسادًا من الكافرين:
فالمنافق مساوٍ للكافر في كفره، ولكنه يزيد على
الكافر في الخداع والمكر والتضليل، فالمنافق محسوب على المسلمين وهو يعيش
بينهم، ويغشى مجالسهم، وقد لا ينتبه إليه أحد، ومِن ثمَّ فإن ضرره على
المسلمين وعلى مجتمعاتهم أشد وأخطر؛ حيث يكون الحذر منه قليلاً بخلاف
الكافر.
المنافقون يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف:
قال -عز وجل-: (الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ
فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (التوبة:67).
أي فساد أعظم من هذا؟ أي فساد أعظم من أن يكون الإنسان آمرًا بالمنكر ناهيًا عن المعروف؟!
إن هذا عكس للغاية التي خلق الله الإنسان من أجلها،
وهو تعمير الأرض بطاعة الله -عز وجل-، والإيمان به، وهذا هو الإصلاح في
الأرض، وعكس ذلك يكون الإفساد في الأرض وتخريبها.
المنافقون متعاونون على الإفساد في الأرض:
وهذه طبيعتهم، العمل كجماعة يصدون عن سبيل الله
ويتعاونون معًا في سبيل تحقيق ذلك؛ ولهذا خاطبهم الله في كتابه الكريم
كجماعة، فقال -عز وجل-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ).
لما انصرفوا في غزوة بدر بقصد إضعاف جيش المسلمين
انصرفوا جماعة، وتراهم في العصور الحديثة متعاونين على الصد عن سبيل الله،
وعلى محاربة أوليائه، موزعين للأدوار التي تكشف عن التنسيق الجماعي فيما
بينهم، ولذلك بيَّن الله -عز وجل- أنهم: (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ).
السخرية من أهل الحق ومن شعائر الإسلام:
فالمنافقون كارهون للإسلام، مغتاظون من الحق وأهله، ساخرون من شعائر الإسلام، ومن لباس المسلمين، أهل السنة والجماعة.
وإن من عوامل هدم المجتمع المسلم وتقويض أركانه
وإشاعة الفساد فيه أن يسخر أفراده من بعضهم البعض؛ لا سيما إن كان
الساخرون من أهل الإفساد في الأرض الذين انتكست فطرتهم، وانقلبت عندهم
الموازين؛ فأصبحوا يرون الباطل حقًا والحق باطلاً، أصبحوا ينظرون إلى
الانحلال والتعري وسوء الخلق على أنه مظهر من مظاهر التحضر والتمدن، وأن
العفة والاحتشام وحسن الخلق مظهر من مظاهر التخلف والرجعية والعودة إلى
الوراء.
إنها موازين مقلوبة..
يُقاس فيها التحضر بمدى اغتراف الرجل والمرأة من نتن وأوحال وأرجاس
المجتمعات الكافرة، ويقاس فيها التخلف بمدى التحشم وحسن الخلق وستر العورة!
إنها موازين مقلوبة.. حيث يصف المنافقون عهود النور بالظلام.. !
العهود التي ساد فيها الإسلام، وانتشر في أرجاء
الأرض، وساد فيها تحكيم شريعة الله، وعلت قيم الإسلام؛ يصفونها بأنها عهود
الظلام، ويصفون العهود التي روجوا فيها لآرائهم الباطلة وعقائدهم
الفاسدة، وسلوكياتهم المنحلة بأنها عهود النور! يا للعجب لو كان مقصودهم
بالنور الكهرباء فإننا نصدقهم.
ولقد أدت هذه الموازين المقلوبة عندهم، والفطر
المنكسة أن تنكَّر لهم كل مخلوق سلمت فطرته، وما أعجب ما رواه الإمام مسلم
في صحيحه عن جابر -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ
الْمَدِينَةِ هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ
فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: (بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ)، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَإِذَا مُنَافِقٌ عَظِيمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ.
المنافقون والدياثة وتبلد المشاعر:
فالمنافقون انقلبت -كما بينا- الموازين عندهم، ومِن
ثمَّ فهم لا ينظرون إلى كثير من المعاصي على أنها معاصي، بل وهم يستغربون
ويتعجبون من أهل الحق الذين منَّ الله عليهم باعتدال الفطر، وحسن الحكم
على الأشياء، فالحق عندهم حق، والباطل عندهم باطل، الحلال عندهم بيِّن
والحرام عندهم بين.
ومن الأمثلة على ذلك:
حبهم لاختلاط الرجال بالنساء، وإصرارهم على الدعوة لذلك، وتربية أبنائهم
وبناتهم على حب الاختلاط، وتشجيعهم لبناتهم على مصاحبة الرجال والتعرف على
الشباب، وتنمية علاقات الحب بينهم كطريق وحيد لابد له من أجل الزواج،
وغير ذلك من ألوان الانحلال التي تدل على تبلد الحس وعدم الشعور بأثر
المعاصي والفواحش على المجتمع؛ وبالتالي فالمنافق لا يحارب تلك الفواحش،
بل هو يدعو لها ويسخر من محاربتها.
وصدق الله -عز وجل- إذ يقول: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، فهذا حصر للفسق فيهم، وقال أيضًا: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) (النور:19).
المنافقون يرمون المؤمنين بالسفه:
قال -عز وجل-: (وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ
السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (البقرة:13).
فالمنافقون كانوا يرون أن المؤمنين في هجرتهم من مكة
إلى المدينة، وفي تركهم لديارهم وأموالهم وعشائرهم، وفي إيمانهم وتركهم
لدين آبائهم أنهم سفهاء، فرد الله عليهم مدافعًا عن المؤمنين حاصرًا
للفساد في المنافقين، فقال -عز من قائل-: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ).
والسفيه هو: الذي لا يعرف مصلحة نفسه، ولا مصلحة ذويه، ومورد نفسه وذويه موارد الهلاك والدمار، وهذا بلا شك من أعظم الفساد في الأرض.
لا توجد نقطة التقاء بين المؤمن والمنافق:
كيف يمكن أن يلتقي المؤمن الذي يؤمن بالله ربًا،
وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا ورسولاً، ويعبِّد
نفسه لله -عز وجل- وحده، ويدعو إلى ذلك، ويعلم أنه كلما ذل نفسه لله وحده،
كلما كان في أشرف أحواله مع ربه -عز وجل-، كيف يمكن أن يلتقي مع شخص يدعو
إلى الحرية في كل شيء.. في الدين، في الاعتقاد، في الكفر.. ؟!
إن المؤمن يرى أنه عبد، وليس حرًا، يرى أنه عبد لله
يراه الله حيث أمره، ويفتقده حيث نهاه، الحرية عنده منضبطة بضوابط شرعية
وعاها عن الله، وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
أنى له أن يلتقي مع من يرى الكفر حرية، ويرى الابتداع إبداعًا، والتحلل من قيم الإسلام وأخلاقه تحضرًا ومدنية؟!
إن الهوة سحيقة والبون شاسع.. ومن ثم كيف الالتقاء؟!
عقوبة المنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام:
قال -عز وجل-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ) (النساء:145).
هذه هي عقوبتهم، فهم أسوأ من الكافرين كما بينا؛
فاستحقوا الخلود في الدرك الأسفل من النار، ولكن الله بكرمه وعفوه، فتح
لهم باب التوبة على مصراعيه فقال -عز من قائل-: (إِلا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء:146).
واشترط الله -عز وجل- لتوبتهم أن يصلحوا ما أفسدوه،
وأن يعتصموا بالله ويخلصوا دينهم لله، حينئذ يصيرون مع المؤمنين؛ وهي
أمنية غالية عليهم أن يتشبثوا بها، أن يكونوا في معية المؤمنين (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)، بعد ما كانوا في عداء وكراهية مع المؤمنين ومع صفاتهم الحميدة.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.